فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



جاء بإيمانه مجملًا لضيق الوقت عن التفصيل ولعدم معرفته تفصيله.
وسيأتي قريبًا في تفسير الآية التي بعد هذه تحقيق صفة غرق فرعون، وما كان في بقاء بدنه بعد غرقه.
وقرأ الجمهور: {آمنتُ أَنه} بفتح همزة (أنه) على تقدير باء الجر محذوفة.
وقرأه حمزة والكسائي وخلف بكسر الهمزة على اعتبار (إنّ) واقعة في أول جملة، وأنّ جملتها بدل من جملة: {آمنت} بحذف متعلق فعل: {آمنت} لأن جملة البدل تدل عليه.
{آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}
مقول لقول حذف لدلالة المقام عليه، تقديره: قال الله.
وهو جواب لقوله: {آمنت} [يونس: 90] لأنه قصد بقوله ذلك طلبَ الإنجاء من الغرق اعترافًا لله بالربوبية، فكأنه وجه إليه كلامًا.
فأجابه الله بكلام.
وقال الله هذا الكلام له على لسان الملَك الموكل بتعذيبه تأييسًا له من النجاة في الدنيا وفي الآخرة، تلك النجاة التي هي مأمولة حين قال: {آمنت} [يونس: 90] إلى آخره، فإنه ما آمن إلا وقد تحقق بجميع ما قاله موسى، وعلم أن ما حل به كان بسبب غضب الله، ورجا من اعترافه له بالوحدانية أن يعفو عنه وينجيه من الغرق.
ويدل على ذلك قول الله عقب كلامه: {فاليوم ننجيك ببدنك} كما سيأتي.
والاستفهام في: {ألآن} إنكاري.
والآن: ظرف لفعل محذوف دل عليه قوله: {آمنتُ} [يونس: 90] تقديره: الآن تؤمن، أي هذا الوقت.
ويقدر الفعل مؤخرًا، لأن الظرف دل عليه، ولأن محط الإنكار هو الظرف.
والإنكار مؤذن بأن الوقت الذي عُلق به الإنكار ليس وقتًا ينفع فيه الإيمان لأن الاستفهام الإنكاري في قوة النفي، فيكون المعنى: لا إيمان الآن.
والمنفي هو إيمانٌ ينجي مَن حصل منه في الدنيا والآخرة.
وإنما لم ينفعه إيمانه لأنه جاء به في وقت حصول الموت.
وهو وقت لا يقبل فيه إيمان الكافر ولا توبة العاصي، كما تقدم عند قوله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبتُ الآن ولا الذين يموتون وهم كفّار} [النساء: 18].
و(الآن) اسم ظرف للزمان الحاضر... وقد تقدم عند قوله تعالى: {الآن خفَّف الله عنكم} في سورة [الأنفال: 66].
وجملة: {وقد عصيتَ قبلُ وكنتَ من المفسدين} في موضع الحال من معمول (تؤمن) المحذوف، وهي موكدة لما في الاستفهام من معنى الإنكار، فإن إيمانه في ذلك الحين منكر، ويزيده إنكارًا أن صاحبه كان عاصيًا لله ومفسدًا للدين الذي أرسله الله إليه، ومفسدًا في الأرض بالجور والظلم والتمويه بالسحر.
وصيغة: {كنتَ من المفسدين} أبلغ في الوصف بالإفساد من: وكنتَ مُفسدًا، كما تقدم آنفًا، وبمقدار ما قدّمه من الآثام والفساد يشدّد عليه العذاب.
والفاء التي في قوله: {فاليوم} فاء الفصيحة، تفصح عن شرط مقدر في الكلام يدل عليه السياق.
والمعنى: فإن رمتَ بإيمانك بعد فوات وقته أن أُنجيك من الغرق فاليوم ننجيك ببدنك، والكلام جار مجرى التهكم، فإطلاق الإنجاء على إخراجه من البحر استعارة تهكمية.
وليس مسوغها التهكم المحض كما هو الغالب في نوعها، بل فيها علاقة المشابهة، لأن إخراجه إلى البر كاملًا بشكّته يشبه الإنجاء، ولكنه ضد الإنجاء، فكان بالمشابهة، استعارة، وبالضدية تهكمًا، والمجرور في قوله: {ببدنك} حال.
والأظهر أن الباء من قوله: {ببدنك} مزيدة للتأكيد، أي تأكيد آية إنجاء الجسد، فيكون قوله: (بدنك) في معنى البدل المطابق من الكاف في: {ننجيك} كزيادة الباء في قول الحريري: فإذا هو أبو زيد بعينه ومَينه.
والبدَن: الجسم بدون روح وهذا احتراس من أن يظن المراد الإنجاء من الغرق.
والمعنى: ننجيك وأنت جسم.
كما يقال: دخلت عليه فإذا هو جثة، لأنه لو لم يكن المقصود الاقتصار على تلك الحالة لما كان داع للبليغ أن يزيد ذلك القيد، فإن كل زيادة في كلام البليغ يقصد منها معنى زائد، وإلا لكانت حشوا في الكلام والكلام البليغ موزون، ولغة العرب مبنية على أساس الإيجاز.
و: {لمن خلفك} أي من وراءك.
والوراء: هنا مستعمل في معنى المتأخر والباقي، أي من ليسوا معك.
والمراد بهم من يخلفه من الفراعنة ومن معهم من الكهنة والوزراء، أي لتكون ذاته آية على أن الله غالب من أشركوا به، وأن الله أعظم وأقهر من فرعون وآلهته في اعتقاد القبط، إذ يرون فرعون الإله عندهم طريحًا على شاطيء البحر غريقًا.
فتلك ميتة لا يستطيعون معها الدجل بأنه رفع إلى السماء، أو أنه لم يزل يتابع بني إسرائيل، أو نحو ذلك من التكاذيب لأنهم كانوا يزعمون أن فرعون لا يُغلب، وأن الفراعنة حين يموتون إنما ينقلون إلى دار الخلود.
ولذلك كانوا يموّهون على الناس فيبنون له البيوت في الأهرام ويودعون بها لباسه وطعامه ورياشه وأنفَس الأشياء عنده، فموته بالغرق وهو يُتبع أعداءه ميتَة لا تُوَوّلُ بشيء من ذلك، فلذلك جعل كونه آية لمن خلفه علة لإخراجه من غمرة الماء ميتًا كاملًا، فهم مضطرون إلى الاعتراف بأنه غرق إذا نظروا في تلك الآية.
ولم يعدم فرعون فائدة من إيمانه، فإن الله بحكمته قدر له الخروج من غمرات الماء، فلم يبق في الماء أكلة للحيتان ولكن لفظته الأمواج، وتلك حالة أقل خزيًا من حالات سائر جيشه بها ظهر نفع ما له بما حصل لنفسه من الإيمان في آخر أحواله.
وكلمة: {فاليوم} مستعملة في معنى (الآن) لأن اسم اليوم أطلق على جزء من زمن الحال مجازًا بعلاقة الكلية والجزئية.
وجملة: {وإنْ كثيرًا من النّاس عن آياتنا لغافلون} تذييل لموعظة المشركين، والواو اعتراضية، أو واو الحال.
والمراد منه: دفع توهم النقص عن آيات الله عندما يحرم كثير من الناس الاهتداء بها، فهي في ذاتها دلائل هدى سواء انتفع بها بعض الناس أم لم ينتفعوا فالتقصير منهم.
واعلم أن هذه الآية أصرح آية في القرآن دلالةً على أن فرعون الذي أرسل إليه موسى والذي أتبع بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر قد أصابه الغرق.
وقد أشارت إليه آية سورة الأعراف وآية سورة البقرة.
وفرعون هذا هو منفطاح الثاني، ويقال له (مَيْرنْبَتَا) بياء فارسية أو (منفتاح)، أو (منيفتا) وهو ابن رعمسيس الثاني المعروف عند اليونان باسم (سَيْزُوسْتريس)، من ملوك العائلة التاسعة عشرة من الأسر الفرعونية، وكانوا في حدود سنة1491 قبل المسيح.
قال ابن جُريج: كان فرعون هذا قصيرًا أحمر فلا نشك في أن منفطاح الثاني مات غريقًا في البحر، وأنه خرجت جثته بعد الغرق فدُفن في وادي الملوك في صعيد مصر.
فذكر المنقبون عن الآثار أنه وجد قبرُه هناك، وذلك يومئ إلى قوله تعالى: {فاليومَ نُنَجّيك ببدنك لتكونَ لمن خلفك آية}.
ووجود قبر له إن صح بوجه محقق، لا ينافي أن يكون مات غريقًا، وإن كان مؤرخو القبط لم يتعرضوا لصفة موته، وما ذلك إلا لأن الكهنة أجمعوا على إخفائها كيلا يتطرق الشك إلى الأمة فيما يمجد به الكهنة كل فرعون من صفات بنوة الآلهة.
وخلفتْه في ملك مصر ابنته المسماة (طوسير) لأنه تركها وابنًا صغيرًا.
وقد جاء ذكر غرق فرعون في التوراة في الإصحاح الرابع عشر من سفر الخروج بعبارات مختلفة الصراحة والإغلاق.
ومن دقائق القرآن قوله تعالى: {فاليوم نُنجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية} وهي عبارة لم يأت مثلها فيما كتب من أخبار فرعون، وإنها لمن الإعجاز العلمي في القرآن إذ كانت الآية منطبقة على الواقع التاريخي.
والظاهر أن الأمواج ألْقَت جثّته على الساحل الغربي من البحر الأحمر فعثر عليه الذين خرجوا يتقصون آثاره ممن بقُوا بعده بمدينة مصر لما استبطأوا رجوعه ورجوع جيشه، فرفعوه إلى المدينة وكان عبرة لهم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ}
قال الحق سبحانه: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر} [يونس: 90] لأن الاجتياز لم يكن بأسباب بشرية، بل بفعل يخرج من أسباب البشر، فلو أن موسى عليه السلام قد حفر نفقًا تحت الماء، أو لو كان قد ركب سفنًا هو وقومه لكان لهم مشاركة في اجتياز البحر، لكن المجاوزة كانت بأسباب غير ملوحظة بالنسبة للبشر، فالحق سبحانه هو الذي أوحى لموسى: {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر} [الشعراء: 63].
ومياه البحر كأية مياه أخرى تخضع لقانون السيولة، والاستطراق هو وسيلة السيولة، وهي عكس التجمد الذي يتسم بالتحيز.
والاستطراق هو الذي قامت عليه أساليب نقل المياه من صهاريج المياه التي تكون في الأغلب أعلى من طول أي منزل، ويتم ضخ المياه إليها؛ لتتوزع من بعد ذلك حسب نظرية الأواني المستطرقة على المنازل، أما إذا كانت هناك بناية أعلى طولًا من الصهريج، هنا يقوم سكان المبنى بتركيب مضخة لرفع المياه إلى الأدوار العالية.
وإذا كان قانون البحر هو السيولة والاستطراق، فكيف يتم قطع هذا الاستطراق؟
يقول الحق سبحانه: {فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} [الشعراء: 63].
فكيف تحول الماء إلى جبال يفصل بينها سراديب وطرق يسير فيها موسى عليه السلام وقومه؟
كيف يسير موسى وقومه مطمئنين؟
لابد أنها معية الله سبحانه التي تحميه، وهي تفسير لقول الحق سبحانه: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].
ورغم ذلك يتبعهم فرعون وجنوده لعله يدركهم، وأراد سيدنا موسى عليه السلام بمجرد نجاحه في العبور هو وقومه أن يضرب البحر بعصاه؛ ليعود إلى قانون السيولة، ولو فعل ذلك لما سمح لفرعون وجنوده أن يسيروا في الممرات التي بين المياه التي تحولت إلى جبال، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد غير ذلك، فقد أراد الحق سبحانه أن ينجي ويهلك بالشيء الواحد، فأوحى لموسى عليه لسلام: {واترك البحر رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} [الدخان: 24].
أي: اترك البحر على حاله؛ فينخدع فرعون وجنوده، وما إن ينزل آخر جندي منهم إلى الممر بين جبال الماء؛ سيعود البحر إلى حالة السيولة فيغرق فرعون وجنوده، وينجو موسى وقومه.
ويقول الحق سبحانه: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} [يونس: 90].
فهل كان هذا الإتباع دليل إرادة الشر؟
أكان من الممكن أن تكون نية الفرعون أن يدعو موسى وقومه إلى العودة إلى مصر ليستقروا فيها؟
لا، لم تكن هذه نية الفرعون؛ لذلك قال الحق سبحانه عن هذا الإتباع: {بَغْيًا وَعَدْوًا} [يونس: 90].
أي: أنه اتباع رغبة في الانتقام والإذلال والعدوان.
ويصور القرآن الكريم لحظة غرق فرعون بقوله: {حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ} [يونس: 90].
والإدراك: قصد للمدرك أن يلحق بالشيء، والغرق معنى، فكيف يتحول المعنى إلى شيء يلاحق الفرعون؟
نعم، فكأن الغرق جندي من الجنود، وله عقل ينفعل؛ فيجري إلى الأحداث: {حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90].
والإيمان إذا أطلق فهو الإيمان بالقوة العليا، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى قد قال: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14].
لأن الإيمان يتطلب انقياد القلب، والإسلام يقتضي اتباع أركان الإسلام، فالإيمان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل آمنت بالله ثم استقم». وفي هذا القول ذكر محدد بأن الإيمان إنما يكون لله الأعلى.
لكن لو قلت مثلًا: آمنت أنك رجل طيب فهذا إيمان له متعلق، أما إذا ذُكِر الإيمان بإطلاق فهو ينصرف إلى الإيمان بالله تعالى؛ ولذلك قال الله سبحانه للأعراب: {ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14].
وهنا يأتي القول على لسان فرعون: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90]. والخلاف هنا كان بين الفرعون كجهة كفر، وبين موسى وهارون وقومهما كجهة إيمان، وأعلن فرعون إيمانه، وقال أيضًا: {وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90]. ولم يقبل الله ذلك منه بدليل قول الحق سبحانه: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ}
وهذا يعني: أتقول إنك آمنت الآن وإنك من المسلمين. إن قولك هذا مردود؛ لأنه جاء في غير وقته، فهناك فرق بين إيمان الإجْبار وإيمان الاختيار، أتقول الآن آمنت وأنت قد عصيت من قبل، وكنت تفسد في الأرض.
وكان من الممكن أن يقبل الله سبحانه منه إيمانه وهو في نجوة بعيدة عن الشر الذي حاق به.
فالحق سبحانه لا يقبل إيمان أحد بلغت روحه الحلقوم، فهذا إيمان إجبار، لا إيمان اختيار.